الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن يكون الرامي حرًا وأن يكون عبدًا فيجلد كل منهما إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة.وبذلك قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت أول السورة.وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه وهو النسبة إلى الزنا كذبًا غير مقطوع به لجواز كونه صادقًا غير أنه عاجز عن البيان.نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم إليه كذا في عامة الكتب، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع.والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبًا من ذلك ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا.هذا وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم {بِأَرْبَعَةِ} بالتنوين فشهداء بدل أو صفة وقيل حال أو تمييز وليس بذاك، وهي قراءة فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناءً على إطلاق قولهم: إنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة.وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها حكمها في العدد وغيره غاية ما في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرًا إلى أنها غير متمحضة الاسمية و{شُهَدَاء} من ذلك القبيل فأربعة شهداء بالإضافة أفصح من {أَرْبَعَةِ شُهَدَاء} بالتنوين والاتباع.وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى، وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول، وفيه أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو حيان.وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي مدة حياتهم كما هو الظاهر عطف على {اجلدوا} داخل في حكمه تتمة له كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فأجمعوا لهم الجلد والرد، ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادتهم، وقيل: ترد إذا ضربوا سوطًا، وقيل: ترد إذا أقيم عليهم الأكثر، ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله: إن للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال: إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب وهذا ظاهر، وقوله تعالى: {أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} كلام مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم الله عز وجل، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم هم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة، ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند الله عز وجل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الإتيان بالشهداء كما لا يخفى، وصرح بهذا بعض المفسرين.وجوز أن يكون المراد الاخبار عن فسقهم عند الله تعالى وفي علمه، ووجه إذا كانوا كاذبين ظاهر، وأما وجهه إذا كانوا صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر الله تعالى بصونه إذا لم يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز وجل، ولا يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي في شرح الملتقى نقلًا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من الكبائر وإن كان الرامي صادقًا ولا شهود له عليه ولو من الوالد لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن؛ وشرط الفقهاء الإحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة، وقد روى الطبراني عن واثلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قذف ذميًا حد له يوم القيامة بسياط من نار» وهذه مسألة مختلف فيها، ففي شرح جمع الجوامع للعلامة المحلى قال الحليمي: قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء في قذفهن دونه في الحرة الكبيرة المستترة، وقال ابن عبد السلام: قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله تعالى والحفظة ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح، وكذا جرح الراوي والشاهد بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى، وظاهر ما نقل عن ابن عبد السلام نفى إيجاد الحد لا نفي كونه كبيرة أيضًا لشيوع توجه النفي إلى القيد في مثله، وإن قلنا: إنه هنا لنفي القيد والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيماإذا كان صادقًا لا فيما إذا كان كاذبًا لجرأته على الله تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن كان في الخلوة، ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا إذا علم مقيد بما إذا قدر على الإتيان بالشهود، والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه يسيرًا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته، وما ذكر في جرح الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان السبب، ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي الله تعالى عنها سواء كان جهرًا أو سرًا وسواء كان بخصوص الذي برأه الله تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام، ومنه ما هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر، ومنه ما هو صغيرة كرمي المملوكة والصغيرة، ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم الدم بما يكون سببًا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورًا وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبًا لرجمه، ومنه ما هو سنة كرمي ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب.{إِلاَّ الذين تَابُواْ} أي رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب.وقال بعضهم: المستثنى منه في الحقيقة {أولئك} وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب.وقوله عز وجل: {مِن بَعْدِ ذلك} لتهويل المتوب عنه أي من بعدما اقترفوا ذلك الذنب العظيم العائل.وقوله تعالى: {وَأَصْلَحُواْ} على معنى وأصلحوا أعمالهم بالاستحلال ممن رموه.وهذا ظاهر إن كان قد بقي حيًا فإن كان قد مات فلعل الاستغفار له يقوم مقام الاستحلال منه كما قيل في نظير المسألة فإن كانوا قد رموا أمواتًا فالظاهر أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم.ويحتمل أن يغني عنه الاستغفار لمن رموه.والجمع بين الاستحال من أولئك المخاصمين والاستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك.وكون الاستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا: إن حد الكافر ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقيل قبل على أهل الذمة، ووجهه أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند القذف ولذا قيل {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] دون ولا تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلهم لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد، وأما الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد، وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده برد شهادته التي تجدد له، وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه لا يحدث حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الامكان بالخروج إلى دار الإسلام.وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبًا أصلًا لعدم قدرة الإمام فلم يكن الإمام مخاطبًا بإقامته أصلًا لأن القدرة شرط التكليف لو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير الموجب لا ينقلب موجبًا بنفسه خصوصًا في الحد المطلوب درؤه، وأما قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال فيتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل، وقال في المبسوط في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا اعتق بعده: إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد، ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد ثم أعتق وبين أن يكون أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين، وأما الكافر فإنه لو قذف محصنًا ثم أسلم ثم حد لا تقبل شهادته، ومقتضى الآية عدم قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو قديمة لما أن {شَهَادَةً} نكرة وهي واقعة في حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي، وهذا يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم.وأجاب العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام برد شهادته فالامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت تحقق الامتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال، ومقتضى العموم أيضًا عدم قبول شهادة المحدود في الديانات وغيرها وهي رواية المنتقى، وفي رواية أخرى أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرًا لا شهادة ورب شخص ترد شهادته وتقبل روايته، وأورد على العموم أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين.وأجيب بأن الشهادة هناك بمعنى الحضور وإنما يكتفي به في انعقاد النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الانعقاد وحكم الإظهار ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام كما في شرح الطحاوي.والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة المحدود على الحكام بمعنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضوره مجلس النكاح في صحة انعقاده إذ ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر.وذهب الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب، والمراد بتوبته أن يكذب نفسه في قذفه، ومبنى الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه إلى الكل، والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة الأخيرة، وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابًا عن الأولى ولا يضمر فيها شيء بمافي الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أربعة أقسام، الأول: أن تختلف الجملتان نوعًا كما لو قال: أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر، الثاني: أن يتحدا نوعًا ويختلفا اسمًا وحكمًا كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران، الثالث: أن يتحدا نوعًا ويشتركا حكمًا لا اسمًا كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال، الرابع: أن يتحدا نوعًا ويشتركا اسمًا لا حكمًا ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال، وقوة اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في هذه الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية إضرابًا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالاستثناء ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام أيضًا، الأول: أن يتحد الجملتان نوعًا واسمًا لا حكمًا غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام، الثاني أن يتحد الجملتان نوعًا ويختلفا حكمًا واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال: أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال، الثالث: بعكس ما قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال، الرابع: أن يختلف نوع الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدًا وجعل آية الرمي التي نحن فيها من ذلك حيث قيل: إن جملة مختلفة النوع من حيث أن قوله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أمر وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} نهى وقوله جل وعلا.
|